يعد أن ضيّق على الحسين عليه السلام في مدينة جده رسول الله صلى الله عليه وآله، قرر صلوات الله عليه أن يغادر المدينة قاصدا العراق مرورا بمكة، فوصل عليه السلام إلى مكة كما تدكر الروايات في الثالث من شهر شعبان، وأقام فيها إلى أن خرج منها في الثامن من ذي الحجة وهو يوم التروية، فتقريبا مجموع ما قضاه الإمام صلوات الله عليه في مكة كان ما يقارب أربعة أشهر وخمسة أيام، أو ما يساوي ١٢٥ يوما، وهذا يعتبر فترة طويلة مقارنة بعمر النهضة الحسينية، إلا أنه مع ذلك لم ينقل لنا التاريخ الشيئ الكثير مما جرى من أحداث ووقائع في مكة المكرمة في أثناء وجود الحسين صلوات الله عليه فيها، مع أنها كانت مهد انطلاقته الشريفة، وهنا نريد أن نقف بضعة وقفات.
لماذا سيد الشهداء صلوات الله عليه أصلا قصد مكة؟
نحن نعلم أن أهل مكة وأهل المدينة ليسوا على وفاق مع أهل البيت عليهم السلام، هذا الإمام زين العابدين عليه السلام يقول “ما بمكة والمدينة عشرون رجلا يحبنا“، وهذا فضلا عن وجود الشيعة، فلم يكن لهم محبين هناك، فلماذا يقصد سيد الشهداء سلام الله عليه أرضا قلّ محبونه فيها وهو عالم وخبير بذلك؟
إذا نظرنا إلى سيرة أهل البيت صلوات الله عليهم وجدنا أنهم كانوا يعيرون اهتماما كبيرا لمكة والمدينة، فلماذا يعيرونها هذا الإهتمام؟ فاطمة الزهراء صلوات الله عليها بعد شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله قضت ليلها ونهارها باكية عليه، وتقول الروايات “حتى تأذى القوم من بكاء الزهراء” فكانت تخرج فتبكي تحت شجرة الأراك، فكانت مبتعدة عن الناس هناك، فقطع القوم تلك الشجرة التي تستظل بظلها وتبكي تحتها، هل كان صوت الزهراء سلام الله عليها مرتفعا لهذه الدرجة التي تجعلهم ينزعجون منه؟ حاشاها سلام الله عليها، لكن لم يزعجهم الصوت المادي الذي يخرج من بكائها صلوات الله عليها، لكن سبب انزعاجهم كان أن المدينة المنورة بطبيعتها مهدا للإسلام كانت مجمعا ومقصدا للمسلمين من كل مكان، يقصدون رسول الله صلى الله عليه وآله، وكذلك مكة يقصدونها حجًا لبيت الله الحرام، فما يدخل المدينة شخص آخر عهده برسول الله كان يوم الغدير، يوم تنصيب الإمام علي بن أبي طالب إماما للمسمين بعد رسول الله، ولا يعلم ما الذي حدث بعد ذلك اليوم، فيدخل المدينة والمرتسم في ذهنه أن الولي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله هو علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فيرى ابنت رسول صلوات الله عليهما وعليهم أجمعين باكية ليلها نهارها لا تفتر عنه، ويرى أن السلطة بيد أحد غير علي بن أبي طالب عليه السلام، فحينئذ يتساءل هذا الشخص عن سبب بكاء الزهراء عليها السلام، ما سبب أذيتها صلوات الله عليها، أليست فاطمة الزهراء بضعة النبي صلى الله عليه وآله ومن آذاها فقد آذى رسول الله؟ كلنا سمعنا أن فاطمة عليها السلام يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها، “فاطمة بضعة مني وأنا منها، فمن آذاها فقد آذاني”، ودأب رسول الله صلى الله عليه وآله على بيان فضلها ومكانتها، فحينما يرون أن الزهراء باكيبة يعلمونا أن هناك سببا حول بكائها، فحينئذ تتوضح لهم الأمور، لماذا تبكي الزهراء صلوات الله عليها؟ ماذا جرى؟ ماذا صنع بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله؟ ولهذا لم يطيقوا بكاء فاطمة صلوات الله عليها.
وكذلك كان مع بكاء السيدة زينب سلام الله عليها، فلما رجعت إلى المدينة من تلك الرحلة الشاقة، ومسير السبي المؤلم في الكوفة والشام ومرورا بالبلدان، لم تمضي أيام أو أشهر حتى كتب والي يزيد على المدينة كتابا إلى يزيد يقول له إن كان لك في المدينة حاجة فأخرج منها زينب؛ لأن ما حاول الإعلام الأموي نشره بأن السبايا من الترك والديلم، ولكن لما يرى الناس أن زينب تعقد المجالس والمآتم على مصاب الحسين عليه السلام، وتبيّن حقيقة ما جرى عليهم في كربلاء، لن يصدق المسلمين أن السبايا من الترك والديلم، هذه زينب تتحدث بعكس ما يقوله الإعلام الأموي، كما قال لها عبيد الله بن زياد “إنما تفرغ عن لسان أبيها”، “إنك سجّاعة كما كان أبوك سجّاعا” ويقصد بذلك قدرتها الفصيحة البيلغة على بيان الحق وابطال الباطل، كأنها أمير المؤمنين يتحدث، منطقها منطق أبيها صلوات الله عليهم أجمعين، فعندها تتضح الأمور لكل المسلمين الذين يقصدون المدينة المنورة.
فالحسين عليه السلام يعلم أن أهل مكة ليسوا على وفاق مع أهل البيت، سُئل الإمام الرضا عن كيف مال الناس عنه -أمير المؤمنين- إلى غيره وقد عرفوا فضله وسابقته ومكانه من رسول الله (ص)؟ فقال: إنما مالوا عنه إلى غيره وقد عرفوا فضله لأنه قد كان قتل من آبائهم وأجدادهم وإخوانهم وأعمامهم وأخوالهم وأقربائهم المحادين لله ولرسوله عددا كثيرا فكان حقدهم عليه لذلك. فوَرثوا أحقادا بدرية وخيبيرية وحنينية وغيرهن، فعادوا أمير المؤمنين سلام الله عليه، وإن كان ليس لهم عذر في ذلك.
جاء أيضا في الرواية أن أسودًا ذهب للإمام علي بن أبي طالب فقال له: يا أمير المؤمنين إني سرقت فطهرني. فقال:لعلك سرقت من غير حرز. ونحى رأسه عنه، فقال: يا أمير المؤمنين سرقت من حرز فطهرني، فقال عليه السلام: لعلك سرقت غير نصاب. و نحى رأسه عنه، فقال: يا أمير المؤمنين سرقت نصابا، فلما أقر ثلاث مرات قطعه أمير المؤمنين عليه السلام، فذهب وجعل يقول في الطريق: قطعني أمير المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين ويعسوب الدين وسيد الوصيين، وجعل يمدحه، فسمع ذلك منه الحسن والحسين عليهما السلام وقد استقبلاه، فدخلا على أمير المؤمنين عليه السلام وقالا: رأينا أسودًا يمدحك في الطريق. فبعث أمير المؤمنين عليه السلام من أعاده إلى عنده، فقال عليه السلام: قطعتك وأنت تمدحني؟ فقال يا أمير المؤمنين: إنك طهرتني وإن حبك قد خالط لحمي وعظمي، فلو قطعتني إربا إربا لما ذهب حبك من قلبي، فدعا له أمير المؤمنين عليه السلام ووضع المقطوع إلى موضعه فصح و صلح كما كان.
فكون أن أمير المؤمنين قتَل آباءهم ليس بعذر لكي يبغضون عليا، لم يقتل أمير المؤمنين أحدا لمصلحة شخصية أو شيء مادي، بل قتلهم في سبيل الله عز وجل، ولو لم يقتلهم لقتلوا المسلمين. فلم يكن أهل مكة علي وفاق مع أهل البيت، فلهذا حينما قصد سيد الشهداء سلام الله عليه مكة لم يكن قاصدا أهلها بالدرجة الأولى، وإنما يعلم بأن في فترة الحج سيتوافد الناس من كل مكان، حينئذ يتسنى له أن يوصل رسالته، ويبين مبادئ نهضته، فمن أحب أن يلتحق بالحسين يلتحق فيقيم الحجة على الجميع، ولهذا كل ما قام به الإمام الحسين من إسال كتب إلى الكوفة والبصرة، ومن ثم وصول الكتب إليه “أن أقدم إلينا” ثم إرساله مسلم بن عقيل مع كتابه إليهم، هذا كله جرى والإمام الحسين عليه السلام في مكة.
وقد أثمر ما قام به الإمام الحسين عليه السلام في مكة، فبعض الأنصار الذين قتلوا مع الحسين عليه السلام يوم العاشر التحقوا به وهو في مكة المكرمة، فإذن لماذا قصد الإمام الحسين مكة مع علمه؟ لأنه قصد مكانا فيه مجمع الناس من كل مكان.
بقي الحسين عليه السلام كما قلنا في مكة ومضى فيها من الأيام أربعة أشهر وخمسة أيام، لماذا لم ينتظر الإمام الحسين يومين ثلاثة أيام بعد يوم التروية حتى يفرغ الحجاج من حجهم فيمضي حينئذ إلى حيث أراد أن يمضي، إلى كربلاء أو غيرها من الأماكن؟
حتى نفهم الإجابة بشكل جيد، لابد من توضيح نقطة في غاية الأهمية وبعد معرفتها ربما كل الإشكالات التي تثار حول مسير الحسين عليه السلام إلى كربلاء تحل، هذا الأمر يبينه العلامة التستري عليه الرحمة، يقول العلامة: سيد الشهداء صلوات الله عليه كان مأمورا بتكليفين اثنين، لا تكليفا واحدا.
- التكليف الأول: التكليف الواقعي.
يعني سيد الشهداء صلوات الله عليه بما رسمه الله له وأطلعه الله عليه من أمور القيب، وبإخبار جده رسول الله صلى الله عليه وآله، كان يعلم أنه لابد أن يسفك دمه الطاهر في أرض كربلاء، وكان ساعيا إلى بذل دمه في أرض كربلاء في يوم العاشر، لا قبله بيوم ولا بعده، ولا في أي منطقة أخرى محيطة بكربلاء، لا بد أن يقتل في هذا الموضع، ويدفن في هذا المكان الذي فيه قبره الشريف.
فتكليف الإمام عليه السلام الواقعي أن يصل إلى هناك حتى يقتل؛ لأن بالظرف الذي عاشه بقتله يقام الدين، ولو لم يقتل الحسين عليه السلام لما بقي من مبادئ دين الله عز وجل وشريعة رسول الله صلى الله عليه وآله شيء، هذا التكليف الواقعي. - التكليف الثاني: التكليف الظاهري.
وهذا ما كان يقوم أهل البيت جميعا بالتصرف طبقه، حتى في أصعب المواقف والظروف كانوا أهل البيت يتصرفوت وفق الظروف الطبيعية، لا على سبيل الإعجاز، لذلك أمير المؤمنين سلام الله عليه لما كان جيشه كان قاب قوسين أو أدنى من خيمة معاوية، رفعت المصاحف، وإذا بأمير المؤمنين سلام الله عليه يأمر مالك الأشتر أن يرجع بالجيش. فكان تكليف الإمام الظاهري هذا، فلابد من أن تسير الأمور بطريقة يكون فيها الأمر طبيعي، بدون مخالفة لمبدأ من المبادئ، أو مخالفة لأمر من الأمور التي يمقتها عامة الناس، لابد من أن يكون الأمر مقبولا مفسرا واضحا للناس. ولهذا كل أهل البيت عليهم السلام ما تصرفوا بأي تصرف يجعل لأحد أن يعترض عليهم أي اعتراض.
فسيد الشهداء سلام الله عليه لما كاد أن يقتل في المدينة خرج منها، ولو قتل في المدينة لقال الناس: لماذا لم يخرج من المدينة؟ التصرف الأمثل بعد الخروج من المدينة كان الذهاب لأأمن بقعة على وجه الأرض وهي مكة المكرمة،وهو مجمع الناس بحيث من يقول للإمام اذهب لليمن فإنهم شيعتك، نقول له بأن الناس كلهم سيأتون مكة لحج بيت الله الحرام، فقصد الإمام مكة، بيت الله الآمن، من دخله كان آمنا، وفي قصده ثمرة عظيمة بيّنت لاحقا أن هؤلاء لا ذمة عندهم، ولايعيرون حرمة لأحد، حتى ولو كان الحسين متعلقا بأستار الكعبة يُقتل، فلم تكن حرمة الكعبة مهمة عندهم، الغاية عندهم تبرر الوسيلة.
فمشى سلام الله عليه وفق الظروف الطبيعية، استقر في مكة وكتب الكتب إلى مختلف المناطق يدعوهم لنصتره، ثم جاءت رسائل القبول منهم، ومضى الحسن عليه السلام تنفيذل لما طُلب من الناس إلى الكوفة، ولهذا ترى سيد الشهداء سلام الله عليه كان حريصا لئلا يبقي لأحد حجة عليه، حتى لما خرج من مكة، ولما وصل إليه خبر مقتل مسلم بن عقيل في الكوفة ونكثهم للبيعة، أصر على أن يقصد الكوفة، ولما عرض عليه الطرماح أن يذهب معه إلى قبيلته ويحتمي بجبل احتموا به من من ملوك غسان وحمير ومن الأسود والأحمر على حد تعبيره، رفض الحسين الذهاب هناك، الدعوة وصلته من الكوفة، ولئلا يقال أن الحسين سلام الله عليه تراجع وأنه جبُن فرجع، حاشاه سلام الله عليه، ولهذا لم يقصد اليمن أيضا، حتى لما منعه الحر عن الوصول إلى الكوفة اتخذ مكانا وسطا بحيث كل من أراد أن يلحق به مع المُكنة تمكن أن يصل إليه -إن لم يُمنع-، كربلاء منطقة من يريد أن يلتحق بالإمام من الكوفة يستطيع أن يصل للإمام، وعندنا بعض الأنصار وصلوا إلى كربلاء لما علموا بوجود الإمام الحسين عليه السلام فيها في يوم العاشر قبيل مقتل الحسين قاتلوا بين يديه فقُتلوا، فلم يبقى لأحد بعد ذلك حجة على الإمام الحسين عليه السلام.
فكانت أمور الإمام الحسين عليه السلام تسير بحيث يتفق تكليفه الواقعي مع تكليفه الظاهري، وهذا تكفل به الله عز وجل، أن تسير المقادير بشكل بحيث يحقق هدفه الواقعي دون اخلال بأمر يقره العقلاء، أما السؤال :لماذا خرج الحسين عليه السلام من مكة يوم الثامن؟ تتضح إجابته الآن، شبه اجماع عندنا أن الأمر وصل إلى عمرو بن سعيد بن العاص والي يزيد على مكة ان يقتل الحسين أينما كان كيف ما كان، وفي بعض الروايات أن يقتل الحسين ولو كان متعلقا بأستار الكعبة، فكان على الإمام الحسين أن يعمل بالتكليف الظاهري وهو الخروج من مكة، أن يستجيب لمن أرس إليه طلبا للنصرة وإذعانا بالتسليم لموقفه الشريف، فلهذا خرج من مكة قاصدا الكوفة في هذا اليوم، ولكي لا يقتل، فقصد العراق، ولم يخرج الحسين جبنا منه، لكن موافقة صارت بين التكليف الظاهري والتكليف الواقعي. وتروي لنا الروايات أنه من شدة حرصهم على بقاء الإمام الحسين عليه السلام في مكة لما أراد الحسين أن يخرج عمرو بن سعيد بن العاصر تعرض له في جملة من جلاوزته، ولكنهم كانوا قلة لم يتمكنوا من منع الحسين عليه السلام من الخروج.