ملا هادي الساعي
استشهاد الإمام السجاد عليه السلام
٢٥ محرم ١٤٤٣هـ
مأتم آل معراج
هناك جانب مهم في سيرة أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين، وأخذ مقدارا ليس بالقليل من الروايات الواردة عندنا، وهو الجانب الغيبي، فتجد كل إمام من الأئمة المعصومين عليهم السلام هناك باب ذكر في سيرته يختص بالأمور الخارقة للعادة ومعالي شؤونه صلوات الله عليه، عشرات بل أكثر من مئات من الروايات التي وردت في هذا الجانب وفي هذا الصدد وفي الآونة الأخيرة صارت تطرح بعض التساؤلات المصحوبة بشيء من الاستغراب فيما يرتبط بهذا الجانب من الروايات الواردة في حق أهل البيت سلام الله عليهم. ونريد أن نستعرض بعض الشواهد من هذا النوع من الروايات في حياة الإمام السجاد صلوات الله عليه
ولكن قبل ذلك وحتى نحل هذه الإشكالية وهذا النوع من التساؤلات التي قد يطرح لا بد من بيان أمور ثلاثة:
- الأمر الأول
الدين يتميز بجنبة لا توجد في العلوم الأخرى، وهو الإيمان بالغيب، وهذا أمر أساسي في الدين، فلا بد أن نؤمن بجانب الغيب هذا الأمر الذي لا تدركه حواس الإنسان، ولكنه أمر له شواهد، أما حقيقته ما هي؟ لا نعلم. ولذلك ورد في القرآن من صفات المؤمنين “الذين يؤمنون بالغيب”، فالغيب أمر مهم في حياة المؤمن، وبالتالي اذا نُظر لمثل هذه الروايات التي فيها معجزات أهل البيت بنظرة مادية دخل الناس إلى متاهات ومعضلات قد لا يجد حلا لها.
فالسجود مثلا ورد عندنا في الروايات أن المؤمن يكون في أقرب الأماكن لله عز وجل قربا معنويا وقت السجود، ولهذا يستحب الاستغفار بين السجدتين؛ لأن العبد انتقل من مرحلة أدنى لله إلى مرحلة أبعد عنه، فكان الأمر مستحقا للاستغفار، لكن البعض يقول أن السجود يُفرغ الشحنات السلبية للإنسان وما إلى ذلك، من أتى بهذا الكلام؟ لا يوجد دليل يثبت صحته، فلا يصح تفسير الأمور العبادية بشكل مادي، حينئذ لا يبقى معنى لإيمان المؤمن، نعم، قد يكون للسجود فوائد صحية لم ترد عن أهل البيت عليهم السلام، لكن لا ينبغي أن تفسر بهذه النظرة المادية. - الأمر الثاني
هذه الروايات ليست أمرا زائدا عن الحاجة، بل هي أشياء مهمة علينا أن نطلع عليها، فالإمام الرضا عليه السلام يسأله سائل: يا بن رسول الله بأي شيء تصح الإمامة لمدعيها؟ قال: بالنص والدليل. قال له: فدلالة الامام فيما هي؟ قال: في العلم واستجابة الدعوة. العلم هو العلم اللدني غير العادي، والدعوة هي التي ينتج عنها أمور خارقة للعادة.
الإمام كونه يشغل منصب الحجية الذي يكون فيه قائدا أعلى للمسمين، لابد أن تكون هناك دلالة عليه، فمن لم يصل له نص تنصيب الإمام بقي له علم الإمام واستجابة دعائه، والأمور التي دلت على نبوة الأنبياء مثلها الأمور التي تدل على إمامة الأئمة عليهم السلام، فحاجة الناس للأنبياء هي ذاتها حاجة الناس للأئمة وما ظهر على أيديهم. - الأمر الثالث
القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وعترته صلوات الله عليهم بينوا لنا أن المقامات العالية فيها تلازم بين العلم والقدرة، تجد في القرآن مثلا “قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك” وهذا المقطع هو من قصة النبي سليمان عليه السلام، أنه عندما النبي سليمان أن يُحضر عرش بلقيس إلى قصره قال أحد الجن “أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك”، فقال آصف بن برخيا وهو رجل من الإنس ” أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك” أي قبل رمشة عين.
كان عند آصف علم راقي وهو علم من الكتاب، فلازمه قدرة راقية مثل طي الأرض، وهي قدرة لا تقع على يد أي بشر، وكذلك النبي سليمان علمه الله منطق الطير، فأصبح به مستطيعا لمخاطبة الطيور والكلام معها، فإذن هناك ملازمة بين العلم والقدرة.
إذا جئنا لعلم أهل البيت عليهم السلام، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال “إن اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً، وإنما كان عند آصف حرف واحد، فتكلم فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ، فتناول عرش بلقيس، حتى صيره إلى سليمان، ثم انبسطت الأرض في أقل من طرفة عين، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفاً، وحرف عند الله استأثر به في علم الغيب”، فإذا كان ما عند آصف حرف واح واستطاع به ان يطوي الأرض، فما هو مستوى قدرة أهل البيت عليهم السلام؟
موسى والخضر عليهما السلام في الرواية أنه لما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع على ماء البحر فنقر في الماء فقال الخضر -لموسى- : ما علمي وعلمك في علم محمد وآل محمد عليهم السلام الا بمقدار ما أخذه هذا الطائر بمنقاره من البحر فهل تراه نقص من ماء البحر بما آخذه بمنقاره؟
فإذا علم موسى والخضر مجتمعين والله يصف الخضر في كتابه “عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما”، والنبي موسى عليه السلام من أنبياء أولي العزم، علمهما مجتمعين لا يساوي قطرة من علم أهل البيت عليه السلام، وإذا كان حرف واحد من اسم الله عز وجل جعل آصف بن برخيا قادرا على أن بعرش بلقيس من اليمن، فكيف بأهل البيت الذين أعطاهم الله اثنين وسبعين حرفا، ما هي القدرة التي لديهم؟
ورد عن الإمام الصادق عليه السلام دعاء يقول فيه “اللهم يا من خص محمدا وآله بالكرامة، وحباهم بالرسالة، وخصصهم بالوسيلة، وجعلهم ورثة الأنبياء، وختم بهم الأوصياء والأئمة، وعلمهم علم ما كان وما بقي، وجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، فصل على محمد وآله الطاهرين، وافعل بنا ما أنت أهله في الدين والدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير” فلدى أهل البيت عليهم السلام علم ما كان وما بقي. وكثير من الروايات تدل على علمهم عليهم السلام، أمير المؤمنين عليه السلام يقول ” لقد علمني رسول الله صلى الله عليه وآله ألف باب يفتح كل باب ألف باب”
فإذا علم أهل البيت كان بهذه الطريقة فلابد لقدتهم أن تكون ملازمة له، ولا نبالغ إذا قلنا أن ما وصلنا من علمهم وحقيقة شأنهم عند الله ما هو إلا شيء يسير، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله ” أمرنا معاشر الأنبياء أن نخاطب الناس على قدر عقولهم.”
نأتي إلى بعض شواهد قدرتهم سلام الله عليهم، دخل رجل على الإمام علي بن الحسين عليهما السلام فقال له علي بن الحسين: من أنت؟ قال: أنا منجم. قال: فأنت عراف. فنظر الإمام إليه ثم قال: هل أدلك على رجل قد مر مذ دخلت علينا في أربع عشر عالما، كل عالم أكبر من الدنيا ثلاث مرات لم يتحرك من مكانه؟ قال: من هو؟ قال الإمام: أنا، وإن شئت أنبأتك بما أكلت وما ادخرت في بيتك.
أبو خالد الكابلي وهو من صحابة الإمام السجاد عندما أراد أن يدخل على الإمام السجاد عليه السلام دق الباب، فخرج إليه غلام سأله: من أنت؟ قال: أنا أبو خالد الكابلي. فقال له الإمام السجاد عليه السلام ادخل يا كنكر. فارتعدت فرائض أبو خالد، واسم كنكر لم كان اسما فقط يعرفه أمه وأبوه، فهذا كان من أول الأدلة التي جعلت أبو خالد يؤمن بالإمام السجاد عليه السلام. فدخل أبو خالد وسلم على الإمام، وقال له الإمام: يا أبا خالد أريد أن أريك الجنة، وهي مسكني الذي إذا شئت دخلت فيه. فقال أبو خالد: نعم، أرينه. يقول أبو خالد: فمسح يده على عيني فصرت في الجنة، فنظرت إلى قصورها وأنهارها، وما شاء الله أن أنظر فمكثت ما شاء الله ثم نظرت بعد فإذا أنا بين يديه.
هذا بيان لقدرة الأئمة عليهم السلام، فإذا أراد أحد ان يفسر هذه الأمور والمعجزات تفسيرا ماديا فليحاول، لكن هذه الأمور التي حصلت على أيدي المعصومين عليهم السلام لا يمكن أن تفسر بالتفسير العلمي، وإنما هي أمور غيبية منحها الله تبارك وتعالى لأنبيائه وأوصيائه ومنهم أهل البيت عليهم السلام.
نختم بهذه القضية كان الإمام السجاد عليه السلام بمكة يحج بيت الله الحرام، وفي نفس السنة هشام بن عبد الملك ذهب لمكة، وكان الإمام يطوف ببيت الله ولا يعطي اهتماما لهشام، وكان الناس يفسحون المجال لهشام ويكرمونه، إلا الإمام منشغل بعبادة الله عز وجل، فقال: ردوه إلي. فردوه فقال هشام: يا علي بن الحسين إني لست قاتل أبيك، فما يمنعك من المصير إلي؟ فقال الإمام السجاد سلام الله عليه: إن قاتل أبي أفسد على نفسه بما فعله دنياه عليه، وأفسد أبي عليه بذلك آخرته، فإن أحببت أن تكون كهو فكن. وما قاله الإمام كان من باب التنزل، يعني أسوأ شيء قام به يزيد غير أنه أنهى حياته، ويزيد دخل بهذا الفعل النار، فإذا كنت -يا هشام- تريد أن تتورط بدم أهل البيت فأنت بذلك أفسدت عليهم دنياهم وأفسدت آخرتك. فقال هشام للإمام السجاد: كلا، ولكن تصير إلينا لتنال من دنيانا. فجلس الإمام السجاد وبسط رداءه على الأرض وقال: اللهم أره حرمة أوليائك عندك. فإذا بالرداء قد ملئ درّا يكاد شعاعها يخطف بالابصار، فقال الإمام عليه السلام لهشام فقال: من يكون هذه حرمته عند ربه، كيف يحتاج إلى دنياك؟ ثم قال: اللهم خذها فلا حاجة لي فيها، الإمام عليه السلام استخدم الاعجاز، وكان بإمكان الإمام أن يقول لهشام أنني لست محتاجًا لدنياك وتنتهي القضية، لكن الإمام أراد أن يبين هنا ليبين لهشام مقدار عظمته.
الإمام الباقر يقول “إن الله قد أقدرنا على ما نريد، فلو شئنا أن نسوق الأرض بأزمتها لسقناها”، والناس ابتعدوا عن خط أهل البيت بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام، فما كان يقوم به الأئمة من اعجاز وأمور غيبية كان من شأنه أن يرجع الناس إلى الطريق الصحيح، ويذكر أن سنة من السنوات شح المطر في مكة، فخرج بعض الشيوخ من مدعي العلم والتقوى يدعون الله أن ينزل عليهم المطر، وإذا بالإمام السجاد عليه السلام يقول لهم: أما فيكم أحد يحبه الرحمان؟ فقالوا له: يا فتى علينا الدعاء وعليه الإجابة. فقال: ابعدوا من الكعبة، فلو كان فيكم أحد يحبه الرحمان لأجابه. ثم أتى الكعبة فخر ساجدا فقال في سجوده: سيدي بحبك لي إلا سقيتهم الغيث. يقول الراوي: فما استتم الكلام حتى أتاهم الغيث كأفواه القرب.