١٤٤٣أحزان أهل البيت عليهم السلامتغطيات

“سفير الحسين عليه السلام” ملا هادي الساعي | ٤ محرم ١٤٤٣هـ

السفير أو النائب الخاص للإمام المعصوم عليه السلام هو من نص عليه الإمام بتوقيع من عنده سلام الله عليه ،بختمه الشريف أننه واسطة بينه وبين عامة المؤمنين، وأنه ممثل خاص للإمام المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، ومن هنا لما كانت هذه المهمة في غاية الدقة والخطورة كان لا بد لهذا السفير المختارأن يتحلى بجملة من الصفات والميزات التي يتخلف بها عن غيره من عامة المؤمنين، فإذا نظرنا مثلا إلى السفراء الأربعة للإمام الحجة عجل الله فرجه الشريف -النواب بالنيابة الخاصة- نجد أنهم جميعا كانوا القمة بعد الإمام المعصوم في الشجاعة وفي العلم والفقاهة والتقوى والورع والحكمة والتفاني في نصرة الإمام المعصوم سلام الله عليه. بل وكانوا جميعا من أصحاب الأئمة عليهم السلام، وأدركوهم جميعا، وصدرت التوثيقات من إمامنا صاحب الأمر عجل الله فرجه الشريف ومن أبيه الإمام العسكري عليهم السلام في وصف وثاقتهم وبيان شأنهم العظيم بين الناس.

وكذلك سفير الإمام الحسين عليه السلام، النائب الخاص لسيد الشهداء عليه السلام مسلم بن عقيل، فناهيك عن الشجاعة حيث أنه كان صاحب ميمنة أمير المؤمنين سلام الله عليه في صفين، وناهيك عن علمه وتقواه وورعه، هذه الصفات التي كشف عنها الحسين عليه السلام حينما قال “إني باعثٌ اليكم أخي وابن عمي وثقتي مسلم بن عقيل فاسمعوا له وأطيعوا” فهذه الكلمة تدل على علو شأن مسلم بن عقيل، إلى جانب كل تلك الصفات العظيمة، إلا أنه كان يتحلى بصفة لابد أن تتواجد في من يشغل هذا المنصب، هذه الصفة هي الإخلاص والتسليم التام والاستعداد للتضحية وفداء النفس وكل شيئ للإمام المعصوم سلام الله عليه، وهذا أمر صعب، كونه ممثلا عن الإمام يعني يتحلى بهذه الصفة لا يتحلى بها إلا الأوحدي من الناس، وهذه الصفة بالتحديد هي التي يحتاجها الإمام المعصوم سلام الله عليه ليقوم هذا الرجل الذي تحلى بهذه الصفة أن يقوم بأعظم مهمة على وجه الأرض، وهي مهمة الإمام المعصوم سلام الله عليه، فيقوم مقامه ويبين ما يريد صلوات الله وسلامه عليه، ويرجع إليه الناس، وهذا أمر في غاية الصعوبة، لأنه يتطلب:

  1. أن يعلم تماما ماذا يريد الإمام المعصوم سلام الله عليه.
  2. أنه على استعداد لتطبيق ما علِم مما يريده الإمام المعصوم سلام الله عليه.

وكما قلنا بأن هذه الأمور لا تتوفر إلا في الأوحدي من الناس، لا يصل الكل إلى هذه المرتبة، أن يعلم كل ما يريده الإمام، وأن يطبق تماما ما يريده الإمام المعصوم سلام الله عليه، ولهذا كان الإمام الحسين عليه السلام دقيقا في اختيار من يبعثه إلى الكوفة وهو مسلم بن عقيل، هذا الذي كان مع علمه بشهادته كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله لما سأله أمير المؤمنين قال: أتحب عقيلًا؟ قال: إي والله، إني لأحبه حبين حبا له، وحبا لحب أبي طالب له، وإن ولده لمقتول في محبة ولدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلي عليه الملائكة المقربون.ثم بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى جرت دموعه على صدره. ورسول الله وأهل بيته عليهم السلام معيارهم بالتقوى فهم المروي عنهم “خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن، ولو كان عبدا حبشيا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولدا قرشيا” لكن مع ذلك كان رسول الله يحب عقيل حبا له، هو بذاته يمتلك من الخصال ومن الكمالات ما يؤهله لأن يكون محطا لمحبة رسول الله صلى الله عليه وآله،”حبا له، وحبا لحب أبي طالب له.” أبو طالب هذا وصي نبي الله ابراهيم، الحجة المعصوم سلام الله عليه كان يحب عقيلا حبا متميزا خاصا، هذا يدل على علو شأن عقيل.
ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وآله قائلا “وإن ولده لمقتول في محبة ولدك” يخاطب أمير المؤمنين سلام الله عليه ويشير إلى مسلم بن عقيل، “فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلي عليه الملائكة المقربون” هذه القضية بما أنها عرضت بهذا الشكل فهي معروفة ومتداولة عند بني هاشم، ولا شك أن مسلما يعلم بها، أضف إلى ذلك أن سيد الشهداء سلام الله عليه لما سلم مسلما كتابه منطلقا إلى الكوفة قال له: وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء.
فالإمام الحسين عليه السلام أخبر مسلم بن عقيل بأنه مقبل على الموت والشهادة، لكن مع ذلك لم يتوانى مسلم بن عقيل ولو للحظة، معلنا أنه في كامل استعداده للتضحية في سبيل سيد الشهداء صلوات الله عليه، ولهذا كان أهلا أن يقوم بهذه المهمة العظيمة أن يكون ممثلا عن الإمام المعصوم سلام الله عليه، هذا الذي لا تأخذه في الله لومة لائم.

كل إمام معصوم قبل أن يقوم بحراك أو نهضة وفي أثناء حراكه ونهضته فإنه يلحظ أمرين نذكرهما لا على سبيل الحصر ولكن لأهميتهما:

  1. يلحظ الإمام سلام الله عليه استعداد الناس لأن يحملوا معه النهضة التي يريد أن يقوم بها.
    مثلا رسول الله صلى الله عليه وآله في غزوة بدر، القوآن يقول “ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون”، لكن ما الذي جعل الله عز وجل يمدهم بالملائكة؟ الذي جعل الله يمدهم بالملائكة هو استعداد المسلمين وتفانيهم -لا نتكلم عن بعض الاستثناءات والشواذ الموجودة في كل الحركات، لكن الحالة العامة لجيش المسلمين كانت الإندفاع للتضحية وفداء النفس لنصرة دين الله-، فلما كانت هذه الحالة موجودة أنزل الله عز وجل النصر منه بواسطة الملائكة، كان المسلمين تقريبا ثلث عدد المشركين.
    أما في غزوة أحد كان الوضع على النقيض عن ذلك، النبي صلى الله عليه وآله كان يمكن أن تنزل النلائكة عليه، وذكرنا سابقا أن الملائكة من ضمن أغراض اختلافهم على أهل البيت هو نصرتهم، هم حاضرون لخدمة أهل البيت سلام الله عليهم، فالنبي لديه القدرة على أن يطلب من الله عز وجل أن يمده بالملائكة، لكن لماذا كتب على المسلمين الهزيمة في أحد؟ لأن التخاذل كان من عند المسلمين، ولم يلزموا رسول الله صلى الله عليه وآله، رسول الله أمر الرماة أن يبقوا فحليت الدنيا في عيونهم وخافوا على حصصهم من الغنائم فخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله ونزلوا من الجبل، فما دام التخاذل كان من جهة المسلمين، لا يقدم الله النصر لهم على طبق من ذهب، وهذا ديدن الأئمة المعصومين سلام الله عليهم. ولدينا أيضا قصة أمير المؤمنين عليه السلام مع مالك الأشتر في صفين، كان مالك الأشتر قريب جدا من خيمة معاوية ولكن أمره أمير المومنين بالرجوع، لأن معسكر أمير المؤمنين صار في تخاذل، وخُدعوا وغُرُّوا.
    فالإمام المعصوم دائما يلحظ استعداد الناس، ولا ننسى هذه الرواية عن الإمام الصادق سلام الله عليه، يأتي له شخص فيقول له لا يسعك القعود وعندك الآلاف المؤلفة من شيعتك. ولكنه لم يطيق أمر الإمام سلام الله عليه أن يدخل التنور. هذا يدل على تخاذل، ومع شيء من الجهل أيضا؛ لأن الإمام سلام الله عليه لا يعذب أحدا دون معنى، فعل الإمام من فعل الله عز وجل.
    طبعا هذا تنظير، وإلا لو كنا في ذلك الوقت ماهو الموقف؟ ماذا يكون تصرفي؟ لا أعلم، الموقف صعب حقيقة، يحتاج مثل ما قلنا إلى الأوحد من الناس، من يتحلى بهذه المَلَكات والصفات.
  2. يلحظ الإمام سلام الله عليه الحفاظ على مبادئ الدين، وعلى القيم النقية الصافية في كل مفصل من مفاصل حركته.
    أبو مسلم الخراساني بعد أن رفع بنو العباس شعار الرضا من آل محمد صلوات الله عليهم، كذبا وزورًا، مجرد للوصول إلى غاياتهم التي يريدونها، استخدموا أهل البيت صلوات الله عليهم كاسم، بعد أن ارتكب ابو مسلم تلك المجزرة الذي قل لها نظير في تاريخ الإنسانية، جاء للإمام الصادق سلام الله عليه حتى لا يقال أنه كاذب واستغلالي قال للإمام إن هذه الخلافة لكم، ولكن رفضها الإمام صلوات الله عليه، ما قيمة انتصار عسكري يُبنى على ظلم الناس وانتهاك الأعراض وعلى هدم مبادئ الدين، ما قيمة النصر العسكري؟ النصر العسكري ما وُضع إلا  كوسيلة لتحقيق هدف الإمام سلام الله عليه، وهو تثبيت المبادئ في نفوس الناس، ربطهم بالدين حتى كل شخص يكون هو المحرك لنفسه، لا يحتاج إلى شخص يحركه، التحرك يصير ذاتيا، من اندفاع من الداخل، “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.
    كذلك سيد الشهداء سلام الله عليه من أول يوم قرر أن ينهض بهذه النهضة الشريفة عزم على أن حافظ على كل مبدأ من المبادئ، أول ما بدأ الحسين سلام الله عليه أعلن في وصيته “أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة أبي علي بن أبي طالب“، مع أن الكثير لا يروق لهم هذا الكلام والحسين سلام الله عليه يعلم أن سيرة جده لن يعترض عليها أحد، أما سيرة أبيه لم يقبل بها كثير من المسلمين، لكن من البداية سيد الشهداء عليه السلام كان واصح، كان بإمكانه أن يقول “وأسير بسيرة جدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم” فقط، وربما تجمع الناس حوله أكثر، وبعدها يقول “وسيرة أبي علي بن أبي طالب”، لكن حينئذ ما استفدنا شيئ.

فكان الإمام عليه السلام حريصا منذ البداية وواضحا تمام الوضوح وإن كلفه ذلك أن لا يعجب بعض الناس، لكن كان الإمام الحسين صريحا وواضحا في حركته، ولهذا أي مصلح إذا لم يتسم بصفة الوضوح والصراحة فعندها تضع عليه علامة استفهام، المصلح لا بد أن تكون من أوضح وأبرز سماته الصراحة في مبادئه، والوضوح القاعدةَ التي ينطلق منها.
ثم بعد ذلك لما توالت الأحداث أيضا أعلنها الحسين سلام الله عليه منذ البداية لما أرسل كتابا إلى بني هاشم في المدينة كتب فيه “من لحق بي منكم استشهد، ومن تخلف لم يبلغ مبلغ الفتح” فلم يعِدُهم بمناصب دنيوية، بل بالشهادة والموت، وخطب خطبته أيضا في مكة “خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة”، لما وصله مقتل مسلم بن عقيل قام مرة أخرى خاطبا في الناس وأخبرهم بمقتل مسلم، وتقول الروايات إن بعض من كان مع الحسين سلام الله عليه والتحق به في مكة لما علموا بأن مسلما قتل تركوا الحسين، كانوا يطلبون لأنفسهم السلامة، كان بعضهم يريد أن يكون له مكان في السلطة وفي حكومة الحسين سلام الله عليه، لم يريدوا أن يقتلوا.
فكان سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه حريصا على تمام الوضوح والصراحة، فلم يغرر بأحد ولم يخدع، مسلم بن عقيل كان عالما بكل هذا، وكان عالما بأن الحسين يريد أن يسعى إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل وبيان المبادئ؛ لأن ابسط المبادئ غابت عنهم، حتى الغيرة لم تكن عندهم، لذلك اضطر الحسين سلام الله عليه في أحلك الظروف وأحلك المواقف وهو عند الماء بعد أن كشف القوم عن المشرعة أراد أن يشرب فخاف القوم أن يتقوى عليهم، فقالوا له يا حسين أتشرب وقد هتكت حريمك. الحسين يدري أن حريمه لم يمسسها أحد، لكن رمى الماء على الماء وعاد للمخميات، واجه القوم ثانية، حتى لا يأتي شخص بعد عشرات السنين ومئات السنين يقول الحسين سلام الله عليه ما كان عنده غيرة. وصل عندهم الإنحطاط الأخلاقي إلى درجة أن حتى مفهوم الغيرة لم يكن موجودا عندهم، فاضطر الحسين سلام الله عليه أن يؤسس له ثانية.
فنهضة الحسين سلام الله عليه نهضة المبادئ والقيم، فإذا ضيعنا هذه القيم ولم نستد من هذه المبادئ إذن لم نستفد من نهضة الإمام الحسين سلام الله عليه، وما ينشده صاحب الأمر عجل الله فرجه الشريف أن تركزت القيم التي أراد الإمام الحسين عليه السلام أن يثبتها في القلوب أن تتركز في القلوب وتثبت، حينئذ سلام الله عليه يخرج.

مسلم بن عقيل كان يدري بكل هذا، ويعرف جيدا، ويعرف ماذا يريد الإمام المعصوم، بل ويستطيع أن يطبق ما يريده الإمام حتى لو كان في أصعب المواقف، هانئ بن عروة يقول لمسلم أن يختبئ، يدخل عبيد الله بن زياد إلى تلك الدار وأنت يا مسلم تقتل عبيد الله وتنتهي القضية والفتنة، وربما لو قُتل عبيد الله بن زياد لتمكن الحسين عليه السلام بتوالي الأحداث أن ينتصر عسكريا، لكن ما فائدة هذا النصر، حينئذ يسجل في التاريخ أن الحسين عليه السلام انتضر بالغدر والمكر والحيلة، وهذا ما لا يريده سيد الشهداء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى